في صبيحة يوم بهيج مملوء بالمسرّات والأسرار، انطلق صاحبنا ذو الأربعين حولا، إلى عمله كعادته، ليلتحق مبكرا بالمحطة التي كانت شاغرة من الناس، إلا من بعض المشاغبين والمتربصين بالعباد الغرباء عن المنطقة.
كان الجوّ معتدلا، والوقت بين فجر وضحى، لتظهر من بعيد، كنجم قطب ساطع، قرب هلّال جاء ليؤرّخ للعشر الأواخر من شهر قمري متميّز، يؤرّخ للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، إنه هلال العشر الأواخر من شهر شعبان.
كانت قادمة نحوه ، سريعة الخطوات ، تتعثّر من حين لآخر، كأنها تعرّضت لاستفزاز أو مطاردة مفزعة من قبل أشرار يئسوا من تطويقها وحصارها في حيّز ضيّق مغلّق بهدف اغتصابها أو التنكيل بها، في أطلال عفّنة مهجورة من ساكينها، اعتاد المجرمون ممارسة خّسيس أعمالهم وطقوسهم بها، لكنها فرّت ونجحت في الفرار، لتجده في المحطة وكأنه كان في انتظارها، فاستأنست به كحام منقذ لها من أشرار، نزعوا من قاموسهم كلمة فعل خيرأو نبل أو رحمة وعطف.
اقتربت منه، وحيّته وكأنها كانت مضطرة لفعل ذلك، كأن لسان حالها يريد أن يخبره بأنها في حاجة إلى حماية،فهو رفيقها أو خطيبها الذي كان في انتظارها بالمحطة منذ مدة ليست بالقصيرة.
أما هو فقد تفاجأ بالتحية وبدا في تفكيره كأنه غبّي يتذّكر موقفا سبق وأن مرّ به ثم استقام واقفا في مجلسه، ليعبّر بمروءة ورجولة لم يعتد عليها من قبل، ليردّ على التحيّة بأحسن منها،عارضا عليها الجلوس بجانبه أو بالقرب منه ليخبر بذلك المتربصين، بأنها من العائلة أو هي جارة من الجارات المقيمة في الحي الذي يسكن فيه.
كان اللقاء والموقف جادا، كانا يريدان أن يقولا كلاما كثيرا، لكن تبك"مت الألسن، وارتجّ على الجميع، وسكتت المحطة كلّها، إلا من وقع بعض الأجراس المدويّة، ومؤذنوا المساجد الذين اتفقوا على النداء للصلاة بالأذان دفعة واحدة.
نظرت في عينه، وسط ظلام وضوء خافت لم يستطيع تمييز لون خمارها، أهو أسود ؟ أم بني؟ أم هو بلا لون، كماء زلل، ثم نطقت بصوت خافت رخيم، كأنه منبعث من أوتار لآلة موسيقية، لفرقة سينفونية متخصصة مضبوطة، لا يعرف سرّها ودلالتها إلا قائد جوق كفؤ متمكّن لفك رموزها ، وإبراز الصوت الناشز فيها.
انشرح صدره لها، وظهرت على وجهه علامات الرضا والسرور، فاطمأنت هي له، ودنت منه أكثر، لتقول له: أنا أطلب حمايتك وشهامتك فلا تبخلني أياهما.
كانت كلماتها كوقع الكحول على جرح لم يندمل ، في نفس صاحبنا الكهل المرهق والمتعب بالحب ومشاكله المتنوعة المتعددة، في مجتمع لايرى حبا بين جنسين مختلفين، إلا برباط مقدّس مشفوع بمشاكل لا حصر لها، أولها المهر والسكن ، وآخرها الطلاق والنفقة وحضانة الأطفال القصّر.
هذه المشاكل كلّها دارت في رأسه الصغير، وأوشك أن يتخلى عنها في لمح البصر لتكون عرضة لوحوش بشرية متربصة، لكنه أدرك الموقف وصعوبة التخلّي عن ضحية تطلب النجدة، فتشجّع وكان رجلا بأتم المعنى للكلمة، وهنا وبينما هو غارق في تفكيره ،مرت في الحين سيارة أجرة فاستوقفها مكرها، ليركب إلى جانبها، وينجوا من الأشرار، ليقع في حبّ كان وقعه بغتة.
أما هي فتذكّرت المثل العربي القائل: ربّ ضارة ، نافعة.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire