عيش، تسمّع، عبارة مألوفة عند السلف،هذا واقع الحال في البلاد والمدن التي زارها وقصدها في جولاته السياحية المتعددة، وأسفاره المتنوعة.
كان صريحا جذّابا أنيقا، يملك فصاحة وذكاء وجاها،يقرأ النفوس البشرية الصامتة، بفضل فراسّته وتمكنّه في مجال اختصاصه وخبرته اللامتناهية في مجال العلاقات الإنسانية المتعددة الأوجه والأشكال.
التقى به صدفة في يوم ماطر بارد، وسط غليان وتضارب لأصوات منبعثة صارخة من قاعة مكيّفة، جمعت كلّ أشكال وأصناف من البشر في محيط ضيّق لايتجاوز أربعة جدران، في مساحة محدّودة لاتزيد عن الخمسين مترا مربعا، القاعة تعجّ بروائح منبعثة متعدّدة جمعت كل المتناقضات في فضاء واحد، حتى يخيّل إليك أن الروائح فقدت طبيعتها، ولم تعد متميّزة وكأن حواس الشّم تعطّلت نهائيا ولم تقدر التفريق أو التميّيز بين الروائح الكريهة من الزكيّة.
كان وحّيدا منزو، في ركن من القاعة يحتسّي فنجانا من البنّ الممزّوج بحبات الهيل المستورد من بلاد بعيدة، ويمتصّ سيجّارة بزفيّر شديد كأنه يريد إحراقها دفعة واحدة، ثم يتبعها بنفّير كبير، كأنه يريد تنقيّة رئاتيه من دخّان خامل أراد أن يسكنهما ليستقرّ بهما نهائيا كضيف ثقيل غير مرحّب به، في سكن ضيّق لايجمع إلا سعة صدر وكرم ضيافة أهله.
إنه رشيد، صاحب الثلاثين ربيعا، الغريب على المدينة وأهلها، الباحث عن الأشياء الكثيرة المتعدّدة، من غير أن يحدّدها في هدف وغاية واحدة.
فهو متردّد طموح، خجول كاتم لمشاعره، ومعاناته النفسيّة والاجتماعية، وضغوط أهله وخلّانه ومجتمعه ككل.
كان رشيد مقيّد الأفكار، يريد أن يتحرّر ليعبّر، ليعيش، ليقول: لا للمجاملات، ليكون كما خلق أن يكون.
كانت القاعة مملوءة بخلق الله، إلا كرسيّ شاغر، كان يقابل وجه رشيد وكأنه مخصص لقادم منتظر قدومه ليجلس عليه.
بعد التحيّة والسلام، استأذّن ليجلس على الكرسي الشاغر، ومشاركة رشيد المكان والطاولة، كرفيقين متعارفين، كان بينهما موعد لقاء، تعارفا الاثنان على عجل وكانا، وكأنهما صديقين حمّيمّين، حيث انطلق الحوار والنقاش، وتمّ اكتشاف بعضهما البعض في فترة وجيزة جدا، وكأن النّفوس كانت مهيأّة أو متآلفة من قبل، ومنذ زمان بعيد.
لم يكن رشيد متحّفظا، ولا خجّولا ولا متردّدا، في طرح معاناته على الضيف الوافد في الحين، الجالس أمامه منذ لحظات، كأنّه اعتاد عليه ، أو بعث إليه ليفكّ قيد أفكاره الحبيسة أدراج ذهنه المغلّق بمفاتيح حديدية، لا يعلّمها إلا هو وخالقه.
تجرّأ رشيد وكان على عجّل من أمره، ليخبّره بحاله ومرضه غير المألوف، في مجتمع لا يناقش ولا يقبل مناقشة الصغائر، فكيف يقبل بمناقشة الكبّائر، لكنّه تجرّأ وجمع كل قوّاه ليقول له: إن معاناته عميقة وحقيقية، وهو متورّط لأذنيه في زواج غير كفؤ، فقد عذّّب هو، وعذّب غيّره، في صفقة فاشلة على كل الأوجه، إرضاء لأهلّه، وإسكاتا لأناّس لاعمل لهم، إلا القّيل والقال، ومتابعة سيّرة الرّجال، لايهمّ من هم هؤلاء الرجال..